ما يزال مشروع قانون العنف الأسري رهن المناقشة في مجلس النواب، وقد احتدم الجدل حوله في حين تتكاثر جرائم العنف الأسري، لاسيما على النساء والأولاد. لكن كيف عالجته الطوائف المسيحية في قوانين أحوالها الشخصية؟ تناولت موضوع العنف، الذي قد يتعرّض له أفراد العائلة أثناء قيام الحياة المشتركة، وبنت على هذه الواقعة الآثار القانونية، التي راوحت ما بين إمكان طلب إعلان الهجر، وصولاً إلى الحكم بإعلان بطلان أو فسخ الزواج، وفق الاستاذ المحاضر في كليات الحقوق المحامي ابرهيم طرابلسي.
يعرض طرابلسي لـ"النهار" النصوص القانونية للطوائف المسيحية التي عالجت العنف والقسوة وسوء المعاملة، "والتي يمكن القول أنها تحمي الزوج المعذب والولد المهمل لسوء ممارسة السلطة الوالدية".
يقول "في الكنيسة الكاثوليكية لم يستعمل التشريع تعبير الضرب أو العنف، بل تحدث عن جعل أحد الزوجين حياته مع الآخر قاسية وصعبة، وتعبير القسوة يعتبر في رأيي مرادفاً للعنف على أنواعه". اذ يفيد القانون 120 من نظام سرّ الزواج القديم في معرض تعداده لأسباب الهجر بين الزوجين: "...إذا وضع أحد الزوجين الآخر في خطر جسيم للنفس أو الجسد، أو جعل الحياة المشتركة صعبة جداً، بسبب تعرّضه القاسي، جاز للزوج البريء طلب إعلان الهجر". كما أدخل القانون 864 من مجموعة قوانين الكنائس الشرقية النافذة ابتداء من تشرين الأول 1991 عنصراً جديداً عندما أشار إلى إمكان تعرّض الأولاد للخطر. وفي هذه الحال يمكن أحد الزوجين طلب إعلان الهجر، لأن الولد القاصر لا يستطيع اللجوء إلى المحكمة من دون أحد والديه. واستعمل القانون الغربي (قانون الطائفة اللاتينية) تعبير الخطر الجسيم في النفس أو في الجسد وجعل الحياة المشتركة صعبة (القانون 1131).
"يتبين مما تقدم أن العنف والقسوة الجسدية والنفسية يسبّبان إعلان الهجر في الكنيسة الكاثوليكية، ويختلف الوضع من خلال النزاع المرفوع أمام المحكمة، فإذا تبين أن القسوة ناتجة من حال مرضية يعاني منها أحد الزوجين، يمكن أن تشكل تصرفاته، المعبّر عنها بالعنف، سبباً مبطلاً للزواج".
أما التشريع الأرثوذكسي فذهب أبعد من التشريع الكاثوليكي كما يقول طرابلسي، و"شدّد على العقوبة" إذا جاز التعبير. فالمادة 47 بند د من قانون الأحوال الشخصية للطائفة الأرثوذكسية الإنطاكية أجازت طلب الهجر في حال وجود خطر على أحد الزوجين من الآخر، وفسخ الزواج إذا حاول أحدهما القضاء على حياة الآخر م 67، بند ب.
وتناول القانون الأرثوذكسي أيضاً حال الوالدين غير الصالحين لتربية الأولاد والمحافظة عليهم، يمكن عندئذ للمحكمة أن تأمر بوضعهم في محل تراه موافقاً لمصلحتهم، على أن تعين الشخص الذي يكلف المحافظة عليهم وتربيتهم (م. 61).
ويضيف طرابلسي ان الكنيسة الأرمنية الأرثوذكسية اعتبرت أنه يحق لأحد الزوجين طلب فسخ الزواج أو الهجر في حال عامل أحدهما الآخر معاملة عنيفة شرسة لا تطاق، وإذا عاش عيشة سيئة لدرجة أصبحت المساكنة لا تطاق (المادة 620) أحوال شخصية.
"وتناول هذا القانون أيضاً إمكان إسقاط السلطة الوالدية إذا أساء الأب أو الأم استعمال نفوذهما أو أهملا الأولاد (المادة 155)، من دون الإشارة إلى من يستعمل هذا الحق. وقياساً أرى أن هذا الحق يعود للوالد البريء".
وأجازت المادة 50 من قانون الأحوال الشخصية للطائفة السريانية الأرثوذكسية الانطاكية لأحد الزوجين طلب إعلان الهجر أو الفراق، مع بقاء الرابطة الزوجية إذا تعمد أحد الزوجين الأضرار بالآخر. "في رأيي أنه للمحكمة هنا حق التقدير، في ما يعود لإمكان إعلان فسخ الزواج إذا تجاوز العنف المستعمل حدوداً معينة وأصبحت حياة الزوج الآخر مهدّدة بالخطر جراء التمادي في القسوة".
أما الطائفة الإنجيلية فأجازت للزوج البريء حق طلب الهجر لسوء معاملة أحد الزوجين للآخر (م. 36 فقرة أ) من قانون الأحوال الشخصية للعام 2005. "وفي حال ثبوت أن أحد الزوجين حاول قتل الآخر شرط تأييده بحكم مدني أو جزائي كان له الحق في طلب فسخ الزواج (م. 29 فقرة ب)".
كيفية المعالجة
ما هو الوضع على أرض الواقع لجهة معالجة موضوع العنف الأسري؟ انطلاقاً من تجربته أمام المحاكم المذهبية المسيحية، يجيب طرابلسي انه لا بدّ من الإشارة إلى تأثير الحوادث التي شهدتها البلاد على العائلة اللبنانية. "فالحرب هزت صورة العائلة السعيدة المتماسكة واقتلعت بعضها من جذورها وانتقلت لتعيش قسراً خارج بيتها ومجتمعها وفي شروط قاسية ولا إنسانية أحياناً. وهكذا زادت نسبة الخلافات الزوجية، وليست كلها مرفوعة أمام المحاكم لأسباب كثيرة، زاد عدد الآباء غير القادرين على تحمل مسؤوليات الزواج الأساسية. كما ارتفعت نسبة المدمنين على المخدرات والكحول، وبالتالي انخفض عدد الزيجات سنوياً لأسباب اقتصادية واجتماعية، كما ان نظرة الشبان إلى المستقبل يسودها الخوف وعدم الاطمئنان.
انطلاقاً من كل هذه الاسباب، ازداد التفنن في استعمال العنف على أنواعه: الجسدي، الكلامي، والنفسي الذي يكون أحياناً أقسى من الجسدي".
ويؤكد طرابلسي ان العنف يبدأ عندما يتوقف الحوار بين أفراد العائلة: الزوجين والأولاد. لذا ان احترام رأي الزوج الآخر والاستماع إلى الأولاد وحسن رعايتهم شروط أساسية لنجاح العائلة وتماسكها وضمان ديمومتها.
غياب ملحوظ
في ظل غياب سياسة اجتماعية تحمي أفراد العائلة وتقيهم شر سوء المعاملة على كل الصعد "تجتهد المحاكم المذهبية وتحاول حماية العائلة من خلال النصوص التشريعية التي لا تعالج دائماً كل الحالات. وهي تتجاوز النصوص وتسعى إلى خير العائلة، من خلال ما يتوافر لها من وسائل وأحكام ليست قابلة للتنفيذ دائماً لصعوبة في المشكلات الإجرائية التي تعترض سلوك الحكم المذهبي طريقه إلى التنفيذ، من دون تعقيدات قانونية قد يلجأ إليها المتضرّر من الحكم"، وفق طرابلسي، الذي يُسجّل غياباً ملحوظاً للدولة على صعيد حماية العائلة مدنياً "وكأني بها قد جيرت أمور العائلة إلى الطوائف، باعتبار أن هذه الأخيرة تبت وحدها بالنزاعات العالقة ما بين أفراد العائلة متى جرى عقد الزواج وفقاً للمراسم الدينية".
ويؤكد انه في حال تعرّض أحد الزوجين أو الأولاد لسوء المعاملة: عذاب نفسي أو جسدي أو سلبت حقوقه "لا توجد "مرجعية" يمكن اللجوء إليها لتتمكن من معالجة الحال المشكو منها، باستثناء بعض مبادرات هيئات المجتمع المدني التي يمكن أن تبلور عملها وتصبح قادرة على التدخل مباشرة، وتشكل عاملاً مساعداً في التحقيقات التي تجريها المحاكم خلال البت بالنزاعات العالقة بين أفراد العائلة. ويمكن اللجوء إلى قضاء الأحداث استناداً لأحكام القانون 422/2002 في الحالات التي يتعرض لها القاصرون للخطر. اذ على الدولة أن تسن تشريعاً متكاملاً لحماية العائلة، فهناك نصوص خجولة متناثرة في القوانين المدنية والجزائية تعتبر غير كافية لحماية العائلة.
والمطلوب تجنيد مساعدات اجتماعيات يتولين التحقيق فـي الشكاوى والمطالب، ويتم ذلك من طريق استحداث هيئة خاصة في وزارة الشؤون الاجتماعية تهتم بمثل هذه الحالات، كما هو حاصل في الدول الأوروبية كفرنسا وسويسرا Comité de la protection de la famille، أو إنشاء نيابة عامة اجتماعية تتولى التحقيق في جرائم العنف التي يتعرض لها أحد أفراد العائلة".
يختم طرابلسي "في رأيي يجب عدم تصوير مشروع قانون العنف الأسري كأنه مواجهة ما بين المجتمع المدني المطالب بإقراره من مجلس النواب والمراجع الدينية، لأنه ليس في المشروع المقترح ما ينزع اختصاص المحاكم المذهبية والشرعية في الخلافات الزوجية ونتائجها. يجب أن لا ننسى أن حماية العائلة اللبنانية تقع على عاتق السلطات المدنية قبل المرجعيات الدينية، بمعزل عن قوانين الأحوال الشخصية التي تنظم العلاقة القانونية ما بين أفرادها".